لم تظهر سوسن في الفجر .
حين خرجتُ للبلكونة مرتبكاً وجدت بذلة الضابط نائمةً على حافة البلكونة .
أكمامُها تترنح في الهواء الخفيف .
يبدو أنها قذفت بها في المساء و قررت ألا تخرج .
أصابني إحباط : طالما تمنيت أن أرى سوسن في العتمة .
لكن .. ربما لو كنت ظللت طيلة الليل في البلكونة ما خَرجَت .
عيناها تعملان من خلف الشيش . لم تفعل ذلك إلا عندما تأكدت من عدم وجودي .
ربما خشيت سوسن المواجهة الأولى ، مثلي .البذلة على مقاسي تقريباً .
يبدو أنه كان على نفس الدرجة من نحافتي ،
غير أن قامته كانت أقصر بسنتيمترات قليلة .الأكمام لا تغطي رسغيَّ ..
و كذلك البنطلون قصير بعض الشيء . تأملتُ نفسي أمام المرآة .
انتفض جسدي ، و شعرتُ بأنفاسي تنسحب منِّي .وضعت يديَّ بشكل تلقائي في جيبي البذلة ،
لامس جسداً معدنياً دقيقا ، وورقة . مفتاح صغير و خطاب مقتضب : لن أغادرَ الشقة إلا إذا أتيت .
خرجتُ من جديد للبلكونة .المشهد أمامي رمادي .
فتيات صرن الآن سيدات شائخات يمشين مشبوكي الأيدي مع شباب مفتولين ،
شعورهم لامعة مغسولة بالصابون . الشارع مبلط تعبره سيارات كُتب على لافتاتها " خصوصي مصر " .
أمعنتُ النظر أمامي . عينا سوسن ليستا خلف الشيش ..
أو هكذا يبو لي .بملابس الضابط قطعتُ السلالم باتجاه شقتها .
فتحتُ الباب بسرعة . دار المفتاح أكثر من ثلاث دورات في " العُقب " . لقد أغَلقَت المرأة الوحيدة الباب من الداخل . كما توقعت ، كانت شقة من زمن آخر . غارقة في العتمة كأن ذلك الذي بالخارج ليس الصباح .
طراز الأثاث عتيق ، و رائحة ثقيلة تغمر المكان . لم أتخيل أن يكون سقفُها عالياً لهذه الدرجة ،
بعيد و عامر بالثريات في كل الغرف .أعملتُ يدي في كل مفاتيح النور و لم تعمل .
المرأة كانت تحيا في العتمة.جسدُها كان ممدداً على سريرها العالي ذي الأعمدة ،
في الغرفة التي تطل على بلكونتي بالذات . حاولت أن أوقظها ، بنحنحة في البداية ،
ثم بكلمة يا مدام ولكنها لم تستجب . بدأتُ أهز جسدها برفق.. ثم بعنف .
جسدها أزرق و مثلج . عيناها مفتوحتان على اتساعهما . جسدها متيبس .
اختارتني سوسن لأخبر الناس بموتها قبل أن تتعفن في الظلام . ربما انتَحَرَت .
ربما مات حبيبها القديم اليوم بالذات .. تحقق وعده بميتة متزامنة لكليهما .
لم أجرب قبل ذلك أن أقتل جثماناً .أي لون سيكون عليه دمُ امرأة ميتة إذا تجولت مطواة ٌفي جسدها ؟
من هدوء القتلة
طارق إمام
قريبا دار ميريت يناير 2008
مبروك يا طارق .