تجلس في ركن منزوٍ من الحجرة المعتمة إلا من ضوء شمعه متسخة.
يدخل حاملو الدفوف. رجال كثيرون هذه المرة. خاوية أفواه نصفهم على الأقل من الأسنان.. الرجل الأسمر صاحب السنة الذهبية يربط على وسطه حزاما من الودع يتحرك أمامها بهدوء ينقلب بعد لحظة إلى هستريا الاهتزاز. يتعالى صوت الدفوف.
تدخل سيدة الزار.. تلك السمراء كحيلة العين.. بجلباب مزركش بالدوائر والمربعات.
تلك السيدة السمراء الغارقة في الأنوثة بشكل جعل فتاة الورد تفكر أنها لن تحظى أبدا برجل يحبها لأنها ليست كتلك السيدة التي تشم رائحة أنوثتها يعبق المكان.
سيدة الزار لنظراتها معنى.. هي ترمي ابتسامة وتجرح برمشها قلوب الرجال والنساء معا في ذاك المكان المعتم المزدحم. ترتدي الذهب الذي تكرهه .
الذهب يمنح المكان ضيا له رهبة.
يرتج جسد سيدة الزار وهي توزع البخور في مبخرتها.. تقف أمام فتاة الورد وتنفخ في المخبرة تستنشق الفتاة بخورها.
صوت السيدة السمراء التي تحتفي ببنات الحبشة في أغانيها يرج المكان "حي، صلي على النبي، يا حزينة القلب.. يا مجروحة الروح.. صلي على النبي".
تمتم الفتاة بالصلاة على الرسول الكريم.
تترك السيدة المبخرة جانبا. تتناول دفا. تبدأ الدق.
تنادي على الفتى الحزين في غناها "يا ورابيه يا اسمر يا جميل". الولد ورابيه تناديه.. تستعطفه أن يحن على "راكوشا" أو ينزع حبه من قلبها.
الليلة فرحك يا عروسة.. سمرا وجميلة يا عروسة.
"راكوشا – يااا راكوشا هانم شايلة العروسة"
"يا أم العرايس يا عروسة يا حبشية يا عروسة"
"الله عليكي يا عروسة .. تعالي نلعب بالعروسة"
يعلو صوتها بأسى وهي تنادي على راكوشا – تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي أوقعها الحب في هوى الفتى الأسمر "ورابيه" الذي ولد بقلب يملؤه الحزن.
لا يعرف أن يضم في قلبه شيئا مع الحزن. هكذا تقول الحكاية إن ورابية فتى بقلب يحمل الحزن دون الحب وإن راكوشا فتاة رقيقة تنتظر الحب. تنادي هي ومن معها في القبيلة كل ليلة 14 يوما حتى اكتمال القمر. ينادون الفتى "ورابيه". يجملون راكوشا وينتظرون. يطلقون البخور والغناء والنداء.. "آه يا ورابيه يا اسمر يا جميل .. تعالى نلعب مع العروسة"
فتاة الورد تسمع الغناء الحزين العنيف.. تقارن حالها بفتاة الحكاية.. تنفصل عما حولها.
تعلو الدفوف.. الدق يبدو أكثر عنفا هذه المرة.
تسقط طرحة السيدة الشفافة التي تمنحها مظهرا شهوانيا.. تبدو عارية الرأس هذه المرة.. شعرها أسود ليل متموج كما شاطئ البحر المفروشة على سطحه أساطير المجهول والخوف. ترتفع فتاة الورد من على الأرض لا تذكر كيف!
يتعالى صوت الدفوف.. تغطي الدماء أركان الحجرة المعتمة.. تزكم رائحة البخور الأنوف ويغطي ضباب كثيف العيون ولا شيء سوى الصراخ وصوت الدفوف.
************
في الصباح تجلس بالمقهى في انتظار الولد الحزين.
لا تعرف أن تقاوم دموعها. تحررها قبل مجيئه. تخشى أن تبكي أمامه. هذه المرة تشعر بحرج.
لكنها فجأة وبينما تغطي نصف وجهها بيدها تشعر بمادية وجوده ترفع عينها نحوه.. يرتعد من مظهرها.. يسألها عما بها.
تبتسم رغما عنها وتقول إنها بخير.
فصل من رواية - راكوشا
تصدر قريبا - عن دار ميريت للنشر
الغلاف للفنان - أحمد اللباد