مرات قليلة هي التي قرأت فيها أعمالا أدبية تركت في روحي خواءا ،من فرط شجن ما تقدمه ، فبدى الأمر كخيط ينسج من أول صفحة حتى يحوطك تماما ،ويعيق قدرتك على الحركة . رواية " كل رجل" للكاتب الأمريكي فيليب روث ينطبق عليها هذا الوصف صدرت حديثا عن سلسلة الجوايز .. أشتريتها لأني قرأت على ضهر غلافها أن " بطلها رجل عادي " ميت" لم يكن الوصف مغويا أو ربما كان هذا هو سر رغبتي في اقتناءها ، رغبة ملئتني أن اشتري رواية لا تعدني بشئ . بيني وبين الأشياء التي لا تعد بشئ علاقة قدرية بدأت منذ درست في الإعدادي مسرحية " تاجر البندقية " لشكسبير ، وأختار أنطونيو بطل المسرحية الصندوق الرصاصي الذي لم يعده بشئ فأعطاه كل ما حلم به . في عقلي الصغير كونت وقتها فكرة أن إنتظار الأشياء يعطل مجيئها ، ابتسم الآن لأن ذلك لم يمنعني أن أبقى طوال عمري أنتظر أشياءا . رواية كل رجل تذكرني برواية جيشا لأرثر جولدن ، ورواية شيطانات الطفلة الخبيثة ليوسا . هي حكايات بشر تبدأ معهم ، وتنتهي بنهاياتهم ، فنحتاج للجلوس في مكان معتم وهادئ لنتجادل مع ذواتنا حول رحلة الحياة النابضة التي مررنا عليها الآن وأصبحت جزءا منا . ربما نتقبل الموت والحياة ،والمجئ والإختفاء ، الإشراق والخفوت في الحياة ومع البشر والنهار … لكننا نقف امامه كثيرا في عمل ادبي يعطينا الموت ، ويسهب في شرحه لنا ويتكأ على كل تأملاته . لم أنتظر من الرواية شئ ، فملئت جعبتي بثقل الحياة الرملي ، وفراغ وقسوة الموت من خلال رجل عادي لا شئ فيه مميز ، هو يشبهنا جميعا من الداخل . تمنى أن يعيش الحياة ، أن يتجنب المرض والإخفاق وان يصادف الحب . فتزوج وأنفصل ثلاث مرات ، وأنجب شابان لم يستطيعا ابدا أن يسامحاه على هجر أمهما ، أخطأ فخسر زوجة محبة صادفها بعد الكثير من التعاسة لكنه أضاعها كما نضيع جميعا فرصا واشياء تترك في قلوبنا حزن للأبد . الرواية تحكي عن ضعفه الإنساني ومرات إجراءه لعمليات جراحية كانت رهبته الإنسانية تنتقل لي مع كل مرة يعمل مشرط الجراح في قطع أجزاء منه . علاقاته مع العالم في شبابه ، وطفولته ، ومخاوف الشيخوخة التي قدمها لنا الكاتب هنا دفعة واحدة بلا شفقة من خلال عدد من الشخصيات مرت في حياة البطل وقت شيخوخته . منهم شخصية "ميليسنت كرامر " وهي امراه في السبعين من العمر مصابة بتفسخ في عمودها الفقري لم تظهر سوى مشهد واحد حكت مآساتها قبل أن تنتحر بعدها بأسبوع من شدة الألم ، وزوجها الناشر الثري الذي حقق كل النجاح والبريق في حياته ثم اصابته امراض الشيخوخه وبقى في ايامه الأخيرة كما قال الكاتب روث في جملة بديعة "بدا مأخوذا شاردا مذهولا باقتراب تلاشيه . أسرة البطل كانت تعمل في تجارة الألماس الذي قال عنه البطل جملة اعجبتني " الألماسة لا تفنى . قطعة من التراب غير قابلة للفناء،وتضعها في يدها مجرد إمرأه هالكة ! علاقات ثرية كانت في حياته مثلنا جميعا علاقته بأخيه "هواي"درجة انه عندما كان يجري جراحة ما من الكثيرات التي قام بها في حياته .. كان هذه المرة شاحبا وخائفا حتى جاء ذلك الأخ فقال " لا يمكن أن أموت و"هواي" موجود هنا" وأن وجوده جواره نقل له الرغبة في النجاه وتساءل عقب شفائه " هل هناك أبدا رجل كانت شهيته للحياة معدية مثل شهية هواي ؟ بنته "نانسي" التي أنجبها من زوجته الثانية التي أحبته بصدق ،نانسي هي العلاقة أو الشئ الذي استطاع أن يخرج من الحياة وهو مغلق كفه عليه ، في رايي لو كان لدينا شئ واحد يمكننا أن نفكر أننا أنجزناه على ما يرام فأننا لم نخسر كل شئ . كان يقول عنها انها فتاة نقية وحساسة لا يعيبها سوى كرمها وعطائها الزائد ، تخفي التعاسة بأن تشطب على أخطاء كل شخص عزيز عليها ، عن طريق المزيد من الحب . في حوار له مع نفسه عقب موت امرأتان يعرفهما وصديق من السرطان كان يفكر في أن التقدم في العمر ليس معركة ، التقدم في العمر مذبحة. وعندما فكر في انتحار السيدة " كرامر" تساءل حول قدرته على القيام بالشئ ذاته " كيف يختار المرء أن يترك هذا الإمتلاء من أجل هذا اللاشئ النهائي؟ فكر حتى ان الدعامات الست في قلبه وسوء حالته الجسدية ربما تصله قريبا لترك الحياة . لكن نانسي لا يمكن أن يتركها .. ماذا لو حدث لها شئ وهي أو طفليها وهي تعبر الطريق مثلا .. نانسي التي يحميها فقط بالرابطة البيولوجية بين وجودها وبقاءه ، ثم هل سيحرم من أبدية مكالمتها التليفونية الصباحية ! الكثير من التأملات والمشاعر بدأت بمشهد الدفن ، ثم صوت الميت الذي انتبهت الآن وانا أبحث عن اسمه لأكتبه هنا اني لم اصادفه طيلة صفحات العمل المائة وسبعين كان فقط رجل عادي مثلنا جميعا لم يعد موجودا بعد الآن تحرر من الكينونة ، يدخل إلى مكان بدون أن يعرفه . تماما مثلما خاف من البداية .
أسطورتنا
-
*أعرف أن قلبي سيتفتت ذات ليلة بداء العشقأنا ممتلئة بك حتى الموتالموت الذي
يغيب عندما اكون معك ، اتحسس جدران العالم فتبدو اكثر رفقا ومحبةأعود ...
14 years ago