Friday, April 10, 2015

الصغيرة التي بمقاس قلبي








كل الأشياء التي أحبها ، كل البشر والكتب ومشاهد السينما ،وذكرياتي الكثيرة من الفرح واللقطات الحلوة والمشي لساعات طويلة في الشوارع تحت شمس تحبني وأحبها ، فناجين القهوة ، كل ما يبهجني ، كل المفاجآت التي صنعها لي من أحب ، كل الهدايا التي تزين جدران روحي ، كل الأحبة والأصدقاء والأهل يملئون قطعا من قلبي .
لكنها وحدها تملك قلبي كله ، فأتسلل من فراشي ليلا وأقف أمام سريرها الصغير الذي تدور فوقه نجوم وقلوب يتدلى منها   " أسد وزرافة ودبدوب وقرد " ويغزفن لحن يليق على ابتسامتها الصغيرة  .
أحيانا استيقظ قبلها بثوان في اي وقت من الليل ، فأعرف بحدث اختبرته حديثا  هو " قلب الأم" انها ستفتح عينها حالا وتبدأ في بكاء متقطع بحثا عن طعامها ، ربما أنهض من نصف نومي مغمضة العينين فاذهب نحوها لأغير الحفاض في اللحظة المناسبة تماما ، وابتسم لنفسي كيف عرفت انها تحتاج لذلك الآن .
" يسر" التي اهدتني الأمومة ، فعرفت ان كل ما كان قبلها لاشئ ، وأن أكثر لحظاتي صدقا وتجسدا في هذا العالم كانت لحظة مجيئها .. كنت خائفة حد الموت ، أنا التي ترهبني شكة الإبرة ورائحة المستشفيات  ، حاولت ان استجمع شجاعتي وآخذت نفسا عميقا وأخفيت بيدي نصف وجهي بينما يتحرك السرير نحو حجرة العمليات ، كنت اشعر بالدموع تحاول أن تطفر من عيني كنت أقاومها لم ارد أن يراني أبي ومحمد وكل من حضر ذلك اليوم وأنا أبكي قبل دخولي للعمليات .
كنت اقاوم البكاء وعندما اختفوا جميعا من امامي بكيت ، حتى سمعت صوت طبيب التخدير يطلب مني التوقف حتى لا يؤثر ذلك على ضغطي المضطرب أصلا .
تأخرت الصغيرة في الوصول لحجرتي ، وصلت قبلها وقالي لي الجميع أنها حلوة ، محمد وحده جاء جواري وقال لي انها تشبه " حلا " فابتسمت
حلا هي ابنة عمي الأصغر والأحلى في بنات العائلة الصغار ، وكانت فعلا تشبها كثيرا ، يتغير شكلها كل يوم ، أيام أشعر انها نسخة صغيرة من محمد بحركة فمها واستدارت وجهها ، ألمح فيها الأشياء التي أحبها فيه ، وأشم رائحة جسده .
يسر التي أخذت معصم أمي المكتنز الرقيق ، وحركات يدي ، وعيوني .
يسر التي يقول أبوها انها تشبه جدته التي يحبها كثيرا ، وأن رائحتها تشبه رائحة جسدي ، وأنها طفلة لها مذاق الفرح والعيد .
يسر التي فاجئتنا ابتسامتها منذ أيام ، ونظرات تخصنا بها بعدما كانت منذ ولادتها تتامل الحجرة وتحدق ناحية ملائكتها وتبكي .
تعلمت أخيرا ان تبتسم وتنظر ، قلبي الذي يذوب مثل قطعة المرشملو وأنا احتضنها في الصباح ، الفرح الطفولي الذي اشعر به وانا أحملها في الشارع عندما نخرج معا ، أشعر بزهو لم أشعر به في حياتي ، اود ان أخبر كل من اصادف ان تلك الحلوة الصغيرة تخصني ، وأنها لي يمكنني الإحتفاظ بها كل ساعات النهار والليل .

عندما أخرج بها ، أراقب نظرات الناس ، ابتسم لفكرة أنهم يعرفون أني أم لطفلة .. وعندما أهاتف أصدقائي واتحدث مع الجميع أتعمد ان اناديهم باسماء ابناءهم ليردون لي النداء ويقولون " أم يسر" كم هو عذب وملائكي أن أكون أم .
أفكر ما الذي كنت أفوته طوال السنوات الماضية ، واي متعة يمكن أن تضاهي ان اغني لها واحممها وأختار لها الملابس وأطعمها ثم أخفيها في حضني .
عندما تخرج مع أبيها للتطعيم أو لأي مكان اتحسس بطني واشعر أنها لازلت بالداخل ، لا يمكن أن تغيب عن إحساسي بها ابدا انها هنا راقدة جوار قلبي ، هي التي تملك كل قلبي . مثلما سكنت أحلامي منذ سنوات بعيدة .
هي الصغيرة التي تخصني ، والتي جاءت تماما بمقاس روحي  .


Wednesday, January 21, 2015

جسدك خارج الماء



عبرت الكلمات الخمسين ذهني عدة مرات ، شكلت بعض العبارات ، كانت عبارات مغرية ورنانة .. غالبا ما احتاج لعشر كلمات وجملة واحدة مثل تلك لأبدأ نصا مراوغا لا أعرف أين ينتهي ولا لأين سيقودني جنونه ، لكني انزلق في حفرة أليس واستمتع بخفق قلبي مع السقوط ، ذلك السقوط السريع المدوي نحو المجهول حتى ينقذني غالبا نص مهترأ يقف على الحافة بين ما حدث وما لم يحدث مطلقا .
المفتتح الأول راودني بعد ساعات قليلة من خروجي من غرفة العمليات ، في المرة الأولى التي اعتدل فيها للجلوس ويباغتني الدوار لكني أمتلئ برغبة الدق على الأرض والمضي عبر طرقة المستشفى ذات الجدران الوردية ..دور الولادة والطوارئ جدرانها وردية ، ودور الأورام جدرانه خضراء .. لا أعرف كيف تبدو بقية الأدوار لكن حتما هناك جدران زرقاء ولافتات بيضاء مكتوب عليها عبارات في أغلب الأوقات مرعبة لمن لديه " فوبيا مستشفيات " مثلي .
أنا الهشة مثل قطعة كرواسون خرجت من الفرن وبقت للأبد ، دلالة تاريخية على هزيمة الغزاة . القوية مثل حلم يوشك أن يرى النور .
بدى المفتتح الاول مبشرا بنص جيد ، تدفقت أفكاره لكن حالتي الصحية والألم الذي كان يتجول على راحته في جسدي وشغفي بالصغيرة التي تبكي مثل بطة تجرب العوم للمرة الاولى أو مثل وحش صغير يسأل عن ميعاد وجبته .
كان على المفتتح ان يتراجع قليلا في جانب عقلي لكن الأفكار ظلت تتدفق حتى أني بحثت للحظة عن لوحة المفاتيح قبل أن استسلم للصمت من جديد.
في المرة الأولى التي لمست لوحة المفاتيح كتبت الجملة الاولى وحدها – كل هذا الألم ! كل هذا الجمال ! – ثم عاودت صمتي ودوراني في زخم ضوضاء ذاتي ومخاوفي التي بدت عميقة ومحفورة في القلب ، فكرت فيما بعد في جملة احبها لنزار قباني كنت أكتبها كثيرا في كراسات المحاضرات أيام الجامعة مع المزيد من أبيات الشعر كانت الكلمات " لن تتعمدي إمرأة وجسدك خارج الماء "
ظهرت الجملة أمامي وكان لديّ متسع من الوقت والأرق وصوت الصغيرة ونوبات الألم والحزن والفرح والإرتباك لأفكر ، كان لديّ وسط كل الفوضى كل البراح لأفكر .. ما الذي يمكن أن يعمد الفتاة التي في قلبي إمرأة !
وبدى لديّ الماء وقتها غير موفق ، ربما تعمد الدماء النساء .
تبدو الدماء اكثر واقعية ، خطوط الدماء التي تسيل من الجسد والروح هي ما تمنح صكوك العبور .
طالما ابهجتني وأفزعتني تلك الدماء التي اقصدها ، والتي يمنعني كوني أم لصغيرة جاءت للعالم منذ أيام قليلة أن أتمادي في شرحها ، لأستمتع قليلة بدوري كأم محافظة لا تنعت الأشياء بأسماءها الصحيحة ولا تسب الوقائع بما يصفها تماما لأن صغيرة تجلس بالقرب من قلبي تسترق السمع ، وتتعلم وتعلمني معها ضبط دقة قلوبنا معا .
أقول لأبيها ذلك منذ أيام لا تستخدم ألفاظا خارجة في حديثك هناك آنسة صغيرة في البيت .. لكني اشفق عليها من الدماء التي ستعمدها بالغة ، ثم إمرأة تخص رجل ستختاره غالبا لأنها عرفت منذ اللحظة الأولى التي تلاقت فيها عيونهما أن حكاية ستكون بينهما ، رجل سيحنو عليها وسيصلا معا لصيغة تفاهم ومحبة عميقة يثقلها الوقت وإختبار الحياة والثقة في أن احدهم يمسك بيدها وتتكأ هي عليه جيدا
ربما ستفعل ذلك بعد ان تكسر قلبها عدة مرات ، وربما بعد أن تكسر وتحرق معه نصف السفن والأواني وتابلوهات البيت .
ثم يعيدا على مهل بناء كل شئ ، ربما ستحفظ وعدها له كما فعلت أمها في السابق بألا تكتب أبدا عن دماء البدايات .
وستحتفظ أيضا لنفسها بصورة طفلتها الغارقة في الصراخ والماء والدماء وهي تضرب بيدها الهواء وتجرب العالم الخارجي لأول مرة .
ربما ستحتفظ بنص غامض عن كل الدماء وكل العتبات التي تعمدها إمرأة ، وتنكر مثل امها ان يكون الماء هو بوابة العبور .
ربما ستفعل كل ذلك ، او تفعل امورا أخرى لا تشغلني الآن لأني أعرف أن فطرتها ستدلها ، هي الصغيرة التي بدات من تعويذة قديمة همست بها جدتها في ليلة باردة في مستشفى بعيد وقاس قبل أيام من غيابها ، تعويذة حفظتها في قلبي حتى تجسدت بين يدي ، طفلة عذبة لا يمكنني التوقف عن النظر لها وضمها حتى أتأكد انها حقيقية ، طفلتي التي ساعدتني خانة الأم في شهادة ميلادها  ، والكثير من الألم في مكان الجراحة ، وقلبي الذي تملأه ودموعي التي تسيل كلما تألمت أو عجزت عن جعلها تتوقف عن البكاء كأم ساذجة ، طفلتي التي ساعدني كل ذلك ان اصدق أنها تعويذتي الصغيرة التي جاءت من عالم الحكايات لتنصب كوخا وتشعل الحطب فيجئ الدفء ورائحة الطعام وصوت المحبة ،  ليغمر الرضا العالم ، وتخفت حدة الحزن في قلبي ، ويرتق وجودها هوة الفقد الكبيرة في روحي .
فأعرف أني ربما سأبقى تلك الفتاة الصغيرة التي تعبر بوابة عالم النساء وتشتري الحكايات وتبيعها ، وتفكر ان الدماء وحدها تبدو ملائمة لمقايضة التعاويذ
والحكايات .


 

كراكيب نهى محمود © 2008. Design By: SkinCorner