Monday, April 27, 2009

في إنتظار راكوشا

تجلس في ركن منزوٍ من الحجرة المعتمة إلا من ضوء شمعه متسخة.
يدخل حاملو الدفوف. رجال كثيرون هذه المرة. خاوية أفواه نصفهم على الأقل من الأسنان.. الرجل الأسمر صاحب السنة الذهبية يربط على وسطه حزاما من الودع يتحرك أمامها بهدوء ينقلب بعد لحظة إلى هستريا الاهتزاز. يتعالى صوت الدفوف.
تدخل سيدة الزار.. تلك السمراء كحيلة العين.. بجلباب مزركش بالدوائر والمربعات.
تلك السيدة السمراء الغارقة في الأنوثة بشكل جعل فتاة الورد تفكر أنها لن تحظى أبدا برجل يحبها لأنها ليست كتلك السيدة التي تشم رائحة أنوثتها يعبق المكان.
سيدة الزار لنظراتها معنى.. هي ترمي ابتسامة وتجرح برمشها قلوب الرجال والنساء معا في ذاك المكان المعتم المزدحم. ترتدي الذهب الذي تكرهه .
الذهب يمنح المكان ضيا له رهبة.
يرتج جسد سيدة الزار وهي توزع البخور في مبخرتها.. تقف أمام فتاة الورد وتنفخ في المخبرة تستنشق الفتاة بخورها.
صوت السيدة السمراء التي تحتفي ببنات الحبشة في أغانيها يرج المكان "حي، صلي على النبي، يا حزينة القلب.. يا مجروحة الروح.. صلي على النبي".
تمتم الفتاة بالصلاة على الرسول الكريم.
تترك السيدة المبخرة جانبا. تتناول دفا. تبدأ الدق.
تنادي على الفتى الحزين في غناها "يا ورابيه يا اسمر يا جميل". الولد ورابيه تناديه.. تستعطفه أن يحن على "راكوشا" أو ينزع حبه من قلبها.
الليلة فرحك يا عروسة.. سمرا وجميلة يا عروسة.
"راكوشا – يااا راكوشا هانم شايلة العروسة"
"يا أم العرايس يا عروسة يا حبشية يا عروسة"
"الله عليكي يا عروسة .. تعالي نلعب بالعروسة"
يعلو صوتها بأسى وهي تنادي على راكوشا – تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي أوقعها الحب في هوى الفتى الأسمر "ورابيه" الذي ولد بقلب يملؤه الحزن.
لا يعرف أن يضم في قلبه شيئا مع الحزن. هكذا تقول الحكاية إن ورابية فتى بقلب يحمل الحزن دون الحب وإن راكوشا فتاة رقيقة تنتظر الحب. تنادي هي ومن معها في القبيلة كل ليلة 14 يوما حتى اكتمال القمر. ينادون الفتى "ورابيه". يجملون راكوشا وينتظرون. يطلقون البخور والغناء والنداء.. "آه يا ورابيه يا اسمر يا جميل .. تعالى نلعب مع العروسة"

فتاة الورد تسمع الغناء الحزين العنيف.. تقارن حالها بفتاة الحكاية.. تنفصل عما حولها.
تعلو الدفوف.. الدق يبدو أكثر عنفا هذه المرة.
تسقط طرحة السيدة الشفافة التي تمنحها مظهرا شهوانيا.. تبدو عارية الرأس هذه المرة.. شعرها أسود ليل متموج كما شاطئ البحر المفروشة على سطحه أساطير المجهول والخوف. ترتفع فتاة الورد من على الأرض لا تذكر كيف!

يتعالى صوت الدفوف.. تغطي الدماء أركان الحجرة المعتمة.. تزكم رائحة البخور الأنوف ويغطي ضباب كثيف العيون ولا شيء سوى الصراخ وصوت الدفوف.

************

في الصباح تجلس بالمقهى في انتظار الولد الحزين.
لا تعرف أن تقاوم دموعها. تحررها قبل مجيئه. تخشى أن تبكي أمامه. هذه المرة تشعر بحرج.
لكنها فجأة وبينما تغطي نصف وجهها بيدها تشعر بمادية وجوده ترفع عينها نحوه.. يرتعد من مظهرها.. يسألها عما بها.
تبتسم رغما عنها وتقول إنها بخير.

فصل من رواية - راكوشا

تصدر قريبا - عن دار ميريت للنشر

الغلاف للفنان - أحمد اللباد

Tuesday, April 21, 2009

مولد



أنت أسبابي الوجيهة جدا للفرح وللحياة
العالم متسع كمولد الحسين في الليلة الكبيرة ..
أظنني تلك الطفلة المذعورة التي تاهت عن يد أمها
رغم رغبتي أن أكون الولد الصغير بالجلباب المقلم المتسخ الذي يلحس قطعه من نبوت الغفير وهو سعيد
.. رغم الزحام وأصوات الميكروفونات
وارتباك المقابر وامتلاءها بالحياة ..
في المولد الكبير أحبك كأبي ليلة العيد
لن تعرف معنى ثناءي هذا

أحبك كأبي – ليس لأبي مثيل غيرك
السرداب السحري بينكما يربكني
أنت اسبابي الوجيهه للفرح وللحياة
هل كان ينقصني احتواءك المادي لفزعي من الزحام والبشر لأعرف كم أحبك !
هل كنت أحتاج لأعرف كم أطمئن
وآمن جانب العالم في اللحظات التي اقتسمها معك لتعرف كم هو مؤلم ما أحمله لك !
هل تعرف كم من صفحات كراستي المهترئة أمتلأ بأسباب تدفعني لحبك
ولتدوين كل اللحظات التي أرغب في الإختفاء فيها في حضنك !
هل جربت أن تبكي من الحب ... وتتألم من الوله

أقبل أعتذار الحياة عن كل المواقف السخيفة التي مررتها لي
لتضع ختمها الأحمر الدموي فوق جسدي قبل ان تزج بي في سوق النخاسة
أقبل اعتذارها .. أغفر للموت كل سياطه الملتهبة التي صنعت على قلبي علامات تعذيب رهيبة
أنسى كل شئ .. ويتسرب كل ما أوجعني لحظة وجودي جوارك

أنت اسبابي الوجيهه للفرح وللحياة
أحبك كأمي التي تشتري لي طبلة صغيرة ودمية بلاستيكية من المولد لأنها ذهبت بدوني ...
أمي التي ترسل لي مع هبة رسائل شفوية
أمي التي تحبني وتربت على كتفي رغم الموت
أحبك كأمي التي أفتقد حضنها ويدها وطعامها ورائحتها
أشتاق لكل ما يجمعني بها واشعره معك
في سنوات عمري كلها تحممني أمي ليلة العيد وأول يوم في إمتحاناتي كل عام
أنتهى من مراجعتي الأخيرة للمادة الأولى
وأرتمي في حضنها بين يدها تفك عني ملابسي
تحررني من مخاوفي
تتغلل يدها الرقيقه في شعري تغسله لي مرات
تمر على جسدي بلوفتها الغارقة في رائحة شاور الفواكه الذي أفضله
تجففني وتلفني بفوطتي الوردية
تلثم وجهي وتدعو لي بالنجاح

ليلة العيد أفتقد يدها وهي تدلكني
وليلة المولد أستقبل يدك التي تسرسب لي إحساسا أعرفه بأنك أمي أو ابي
لست حبيبي
لا يسع العالم حبا فوق حبي ولا حزنا أكثر من وجعي ولا جنونا قدر ما يملئني نحوك
ليلة العيد .. ليلة اللقا وليلة العمر وليالي الموت والفراق
كل ما بيني وبينكم يفوح منه رائحة الرحيل
وأنا اتشبث بجلباب أمي ويد ابي وحضنك
رغم الدفوف والزحام ورائحة البخور ...
ابتسم للوجوه الطيبة التي تحوطنا وتدهشني ..
ابتسم لوجودك وأغلق يدي على أناملك وأمضي
أفكر أنك كل اسبابي الوجيهه جدا للفرح وللحياة .




Friday, April 17, 2009

بائع البالونات


في حوار له قال باولو كويلهو " نحن نقسو على أنفسنا عندما نمارس الجنس بدون حب "
أتذكر ذلك الآن وأنا أفكر في الحب
وأظن أننا نقسو على أنفسنا عندما نتعامل مع العالم بدون حب
ابتسم وأنا أفكر في مقايضتي على لحظات البهجة والفرح والحب
أقايض عليها بكل ما لديّ .. ولا أشعر بخيبة أمل وأنا اسكب قراطيس المرح والجنون فوق بعضها وأطبق عليها يدي وأبعثرها في سمائي الصغيرة نجوما أهتدي بها من ظلام الحزن .

أفكر في إنشغالي بالكتابة في روايتي الجديدة " الثالثة " بعد مكعبات الرخام وراكوشا – وفي الطريقة التي تسكن بها مسام جسدي
وتتكأ على علاقتي بالعالم المادي الحقيقي وتورطني في الإختفاء عن الذهاب للجريدة أو مقابلة الأصدقاء أو الخروج من حجرتي
الساعات التي أقضيها وحدي اتسعت .. المسافات التي اقطعها وأنا امشي في الشوارع أتفرج على البشر أصبحت أكثر عمقا .

أجرب طوال الوقت ان أتشبث بخيوط كل ما حولي وكل ما احب لكني ابدو كبائع البالونات الذي التفت الخيوط حول يده وأصبح صعبا عليه أن يتابع سير البالونات دون ان تتداخل وتتشابك ..
ربما لا أجد وقتا كافيا للكتابة في المدونة هذه الفترة بسبب الرواية الجديدة
ربما لا اعرف أن اقابل كل اصدقائي على فترات متقاربة .. وافشل في ترتيب مواعيد للتواصل مع كل من أحب
ولا اجد الوقت للتلوين ولا لصنع بعض الأطباق الطيبة بملعقتي الخشبية الساحرة

لكني أجد الوقت للكتابة وللجلوس معي بشكل يسمح لي أن اشحذ قوايّ لفعل كل ما أتمنى .. أجد الوقت للرقص حتى ساعات متأخرة من الليل
وللتسكع طوال ساعات الصباح الباكرة – أجد وقتا للقراءة ومشاهدة الأفلام

أجد وقتا كافيا بعرض واتساع الكون – لحبك-
لإستعادة كل ما بيننا – لتدوين كل لحظات الفرحة التي أعيشها بمناسبة وجودك

أجد وقتا لأربت على كتفي واحررني من طاقات الحزن .. وأتدرب على إحتمال ثقل الغياب لكل من رحلوا
أجد وقتا لأبحث عن مفردات جديدة للتواصل مع العالم بحب .


Monday, April 06, 2009

شمع أحمر

بالطريقة ذاتها التي تنبش العصا الخشبية بها الرماد لتتوهج النار من تحته ... أختبر العالم .
بنفس قوة الحاجة للخروج من إطار الصورة الضيقة التي تأسرنا بجمالها
،و اعتيادنا على رؤيتها والإطمئنان الذي تبعثه الاشياء التي نعرفها عن ظهر قلب
بقدر كل ذلك أستمتع بالفرار .
بالإنفلات من الجاذبية ..
ذلك الإنفلات الطيب الذي يدلنا على طريق العودة للوطن ..
للرمال التي غضبنا منها لأنها علقت بحذاء المدرسة الأسود الجديد
وطالت حافة الدانتيلا المطوية للشراب الأبيض
لأوراق الشجر التي جمعناها في أكياس ورقية مع قشر " الحرنكش "
لنملأ بها ارضية الفصل
ونثير ميس جانيت العجوز التي كنا نلقبها سرا بمطرب الأخبار
بسبب الشبه الشديد بين تسريحة شعر كل منها ميس جانيت ذات الخرزانة الخضراء
التي تفتش على أظافرنا كل يوم سبت في طابور المدرسة
وتتجاهل فعل ذلك قبل عيد الأم بأسبوع – على الاقل-
وتسرب لنا همهات واضحة بألا ننسى ماما جانيت في عيد الأم .
عيد الأم الذي صار نفقا أستعد لدخوله كل عام بجبل ثقيل من الذكريات
والدمعات والابتسامات المرتسمة رغم انف الشجن

عيد الأم الذي يربكني ويوصم مارس شهري الحبيب
بذلك الثقل المميز لكل المواقف السخيفة التي نضطر لمواجهتها في هذا العالم
المواقف التي تفترش مساحات تلامسنا مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء
فنضطر معها لتحمل سخافات وتمرير الكثير من القبح للإحتفاظ ببعض الهدوء ،
وخيط من المزاج الرائق يسمح لي ألا أفسد قدرتي على الإستمتاع بالأشياء التي أحبها ...

الأشياء التي أحبها والتي لا أضمن أنها تجاوزت الخيط الفاصل بين الوهم والواقع
لا اضمن حتى أنها لن تخيب ظني
كما فعل كتاب اشتهيته طوال عامين وفجأة وقفت أمامه على رف المكتبة
تخيل – كيف بدى الموقف ابحث عن كتاب منذ عامين
أكتب طلبات وقسائم شراء في المكتبات وبالصدفة اجده أمامي على رف المكتبة
اردد اسمه بصوت أعلى قليلا من الهمس .. أتحسس طرفه كأني أتأكد من واقعية وجوده
لا اجرؤ على رفعه من على الرف مرة واحدة – اتذكر أني أتفقت معك أن تشتريه لي – عندما تكتمل تعويذتي
ولأنك لم تعد هنا
ولأني لم اعد أنتظر منك اقتسام المزيد من التعاويذ معي
رفعت الكتاب وقلبت فيه
ابتسامة تشبه تلك التي تملأ وجهي في عيد الأم
أوبعد ملاحظة سخيفة ينصحني بها أحد المهرجين الذين يمتلأ العالم بهم .
.كإبتسامة تشبه ذلك كله أغادر المكتبة دون ان اشتري الكتاب الذي أعرف فور تصفحه انه لم يكن كما ظننت .
وأن هوسي به لم يكن سوى وهم جديد وخيبة أمل أخرى
تكدست فوق أوراق وملفات موصومة داخلي بالشمع الأحمر الذي يحمل عبق الفراولة
ويضئ لي حجرتي في لحظات خاصة لها طعم البراح.
 

كراكيب نهى محمود © 2008. Design By: SkinCorner